الحياء خلق إسلامي رفيع، يحمل صاحبه على تجنب القبائح والرذائل، ويأخذ بيده إلى فعل المحاسن والفضائل.
ويكفي لمعرفة منزلة هذا الخلق ومكانته في الإسلام، أن نقرأ قوله صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بضع وستون شعبة، أعلاها لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان) رواه البخاري و مسلم، فالحياء فرع من فروع الإيمان، وطريق من الطرق المؤدية إليه.
وإذا كانت منزلة الحياء في الإسلام على هذه الدرجة الرفيعة، فلا عجب أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم الناس اتصافاً بهذا الخلق الرفيع، فقد كان أكثر الناس حياءً، وأشدهم تمسكًا والتزامًا بهذا الخلق الكريم.
ويشبه لنا الصحابة الكرام خلقه صلى الله عليه وسلم، بأنه كان أشد حياء من الفتاة في بيت أهلها؛ يروي لنا الصحابي الجليل أبو سعيد الخدري رضي الله عنه ذلك، فيقول: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد حياءً من العذراء في خدرها) رواه البخاري و مسلم.
وأول مظاهر حيائه صلى الله عليه وسلم وأولاها، يتجلى في جانب خالقه سبحانه وتعالى؛ ولهذا لما طلب موسى عليه السلام من نبينا صلى الله عليه وسلم أن يراجع ربه في قضية تخفيف فرض الصلاة، وذلك في ليلة الإسراء والمعراج، قال صلى الله عليه وسلم لموسى: (استحييت من ربي) رواه البخاري؛ فبعد أن سأل نبينا ربه عدة مرات أن يخفف عن أمته من عدد الصلوات، إلى أن وصل إلى خمس صلوات في اليوم والليلة، منع خُلق الحياء نبينا صلى الله عليه وسلم من مراجعة ربه أكثر من ذلك.
وأما حياؤه صلى الله عليه وسلم من الناس، فالأمثلة عليه كثيرة ومتنوعة؛ فقد ورد أن امرأة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كيفية التطهر من الحيض، فأخبرها أن تأخذ قطعة من القماش، وتتبع بها أثر الدم، إلا أن تلك المرأة لم تفهم عن النبي قصده تمامًا، فأعادت عليه السؤال ثانية، فأجابها كما أجابها في المرة الأولى، غير أنها أيضًا لم تستوعب منه قوله، فسألته مرة ثالثة فاستحيا منها وأعرض عنها، وكانت عائشة رضي الله عنها حاضرة الموقف، فاقتربت من تلك المرأة وشرحت لها الأمر بلغة النساء.
ومن الأدلة على حيائه صلى الله عليه وسلم، ما جاء في الصحيحين، عن أنس رضي الله عنه، في قصة زواج النبي صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش رضي الله عنها، فبعد أن تناول الصحابة رضي الله عنهم طعامهم تفرق أكثرهم، وبقي ثلاثة منهم في البيت يتحدثون، والنبي صلى الله عليه وسلم يرغب في خروجهم، ولكن، ولشدة حيائه صلى الله عليه وسلم لم يقل لهم شيئًا، وتركهم وشأنهم، حتى تولى الله سبحانه بيان ذلك، فأنزل عليه قوله تعالى: {فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} (الأحزاب:53).
وكان من حيائه صلى الله عليه وسلم، أنه كان إذا بلغه عن الرجل أمر غير جيد، أو رأى منه سلوكًا غير قويم، لا يخاطب ذلك الشخص بعينه، ولا يوجه كلامه إليه مباشرة، حياءً منه، ولكي لا يجرح مشاعره أمام الآخرين، بل كان من خلقه وهديه في مثل هذا الموقف أن يوجه كلامه إلى عامة من حوله، من غير أن يقصد أحدًا بعينه، فكان يقول: (ما بال أقوام يقولون: كذا وكذا) رواه أبو داود. وهذا من حيائه صلى الله عليه وسلم، وتقديره للآخرين أن يجرح مشاعرهم، أو يشهِّر بهم أمام أعين الناس.
وكان من أمر حيائه صلى الله عليه وسلم، أنه إذا أراد أن يغتسل اغتسل بعيدًا عن أعين الناس - ولم تكن الحمامات يومئذ في البيوت، كما هو شأنها اليوم - ولم يكن لأحد أن يراه، وما ذلك إلا من شدة حيائه.
أخبرنا بهذا ابن عباس رضي الله عنه، قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسل من وراء حجرات، وما رأى أحد عورته قط). رواه الطبراني، قال ابن حجر: وإسناده حسن.
ومن صور حيائه ما جاء في سنن الدارمي، قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حييًا، لا يُسأل شيئًا إلا أعطاه) وهذا من طبع الحيي أنه لا يرد سائله، ولا يخيب طالبه وقاصده.
ولم تكن صفة الحياء عنده صلى الله عليه وسلم صفة طارئة، بل كانت صفة ملازمة له في كل أحيانه وأحواله؛ في ليله ونهاره، وفي سفره وإقامته، وفي بيته ومجتمعه، ومع القريب والبعيد، والصديق والعدو، والعالم والجاهل؛ وقد روى لنا القاضي عياض في صفة مجلسه صلى الله عليه وسلم، فقال: (مجلسه مجلس حلم وحياء) فما ظنك بمن كانت مجالسه، مجالس تسود فيها صفات الحلم والحياء؟!.
لكن يشار هنا، إلى أن الحياء لا ينبغي أن يكون مانعًا للمسلم أبدًا من أن يتعلم أمور دينه ودنياه؛ فقد كان الصحابة رضي الله عنهم يسألون رسول الله عن كل ما يعنيهم في أمر دينهم أو دنياهم، حتى ورد في الأحاديث أنه صلى الله عليه وسلم علم صحابته كل شيء، حتى الأمور المتعلقة بقضاء الحاجات؛ كالدخول إلى الحمام بالرجل اليسرى، والخروج منها باليمنى، وعدم استقبال القبلة عند قضاء الحاجة، وعدم استعمال اليد اليمنى حال إزالة النجاسة، ونحو ذلك من الأمور التي لم تمنع الصحابة من أن يسألوا عنها لتعلقها بعبادتهم ونظافتهم.
وكذلك كان النساء من الصحابة، يسألن رسول الله عن شئون دينهن، وقد صح أن الصحابية أم سُليم رضي الله عنها جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله! إن الله لا يستحيي من الحق، هل على المرأة من غسل، إذا رأت الجنابة في منامها؟ فقال لها: (نعم، إذا رأت الماء). والحديث في الصحيحين.
فقد علمت رضي الله عنها أن دينها يفرض عليها أن تتعلم أمور دينها، لذلك لم تستحِ من سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عما دعت الحاجة إليه، وقدمت لسؤالها بقولها: (إن الله لا يستحيي من الحق) حتى تقطع الطريق على من قد يسمع سؤالها، فيتبادر إلى ذهنه أن سؤالها هذا ينافي
الحياء ويجافيه